يا روحا ترقد تحت التراب عليك مني سلام الحب والود والاشتياق، أما بعد:
❤️
لقد قررت أخيرا أن أكتب لك، بعد ثلاث سنوات وستة أشهر وأسبوعين على رحيلك، راودني شعور غريب؛ خليط من الشوق والحزن والحنين. استنجدت بقلمي، لعل الوجع يهمد قليلا. ولأول مرة تخونني كلماتي! أبجدية الضاد بأكملها عجزت عن إخراج ما بين أوتاري، هي ثمانية وعشرون حرفا ترتجف بين أصابعي. دعك من هذا الهراء، فأنا لا أتقن فن المقدمات، تتعبني كثيرا تلك الأسطر الأولى ولو كنت شجاعة بما يكفي، لبدأت رسالتي بـ "أحبك جدتي، فماذا بعد.." على فكرة، في كل مرة عانقتك، كنت أهمس لك أني أحبك، لم أملك يوما جرأة الجهر بذلك. كنت أخجل وأقاوم الرغبة التي بداخلي. بحثت دائما عن جرعة دفء إضافية بين راحتيك وهما تحتضناني كحزمة قمح. لطالما أطلت النظر في عينيك، ابتسامتك، تفاصيل وجهك والشيب الذي يعلو شعرك. عشقت حكاياك ومازلت أحفظها عن ظهر قلب. هل أطلعك على سر؟ لم أفهم يوما مغزى الكلام، بقدر ما كانت تستهويني نبرة صوتك. لكني أعتب عليك قليلا ! جميع نهايات القصص كانت سعيدة والكل عاش في أمن وأمان، وماذا عن راوي الحكاية؟ لم تخبريني أبدا أن الطائر لن يغرد مدى الحياة وأن النبع سيجف في أحد الأيام وأن الجدة التي تحكي ستصبح ذات ليلة هي بطلة القصة التي تروى. جدتي..أتذكر زغاريد الفرح حين حصلت على شهادة البكالوريا، إمساكك بيدي لنعبر الشارع، ضحكاتك ونحن نعيد مشاهدة حلقات مسلسلك المفضل، حديثك مع الجارات، نصائحك لصنع الخبز وتحضير الشوربة، دعواتك لي وأنا أغادر الوطن لأول مرة.. أتذكر الكثير من التفاصيل الصغيرة؛ بعضها ممل وتافه جدا، إلا أنه يحتل ركنا خاصا في قلبي. أفتقد لقبا لا يناديني به غيرك، أشتاق لحلاوة روحك، أثير صوتك في أذني ورائحة يديك المقدستين. تؤلمني فكرة رحيلك، أننا لا نطأ نفس الأرض، لا نستنشق نفس الهواء، لا نتقاسم الأحزان كما الأفراح. يرهقني أن أهاتف أمي دون أن أسأل عن أحوالك، أتفادى أن يزل لساني و لو سهوا باسمك، أخاف أن أرش ملحا على جراحها التي لم تندمل بعد، أعرف أنها تعاني أضعاف ما أعانيه. جدتي.. حلمت أن أعانقك لحظة تخرجي، أن أزف لك خبر حصولي على أول عمل، أن نركب الطائرة معا، أن ندعو الله بين أحضان مكة، أن نصلي ركعتين في المسجد النبوي، وأن نحتسي أكوابا من الشاي ككل صيف فوق سطح المنزل. لا أنتظر ردا وأعلم أني لا أملك من أمري شيئا ثم أوقن أن في الموت راحة وسكنا لمن رحل وموعظة وعبرة لمن بقي.. لكن الكتابة تهدئ الألم أحيانا وعلى حدودها يسكن فؤاد أنهكه الحنين. فالحمد الله على نعمة الإيمان الذي جعل الموت جسر عبور لا نهاية حاسمة، وإنا لله وإنا إليه راجعون، وبقضائه راضون ولحكمته محبون ومتدبرون.
🇯🇴❤️